اللهم صلِّ على سيدنا محمد سيد الخلق وإمام المحبين وحبيب رب العالمين المشكاة المنيرة والمصباح المضيء , الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين في كل وقت وعصر وزمان وحين وعلى آله وصحبه وسلم.
العلم مشعل نور , يزيل بشدة نوره ظلمة الجهل , وينير درب البشرية , إلى طريق الحرية , الحرية من قيد التخلف , وكما المشاعل تختلف فمنها ما يشتعل على شحم الحيوان , ومنها ما ينير بالكاز , ومنها ما يضيء بالزيت , ومنها ما يعمل بالكهرباء , منها ما هو مَحَلّيُّ التصنيف ومنها ما هو مستورد , كذلك العلوم تتفاضل فيما بينها …
والشرفاء في هذه العلوم أربعة أناس , الشرف العظيم الأول أن يكون المرء من صناع هذه المشاعل والشرف العظيم الثاني أن يكون من حامليها , فهناك من قُدِّرَ له أن يكون صانع لهذه المشاعل فيؤسس العلوم ويبتكر , وهناك من قُدِّرَ له أن يكون حاملاً لهذه المشاعل فيدرس هذه العلوم ويشرحها للناس ويعلمهم تطبيقاتها , والشرف العظيم الثالث أن يكون ممن يطلبون هذه العلوم ويطبقونها , وكل ذلك شرف ترتفع مرتبته بنوع العلوم , فالعلوم التي تنمي وتطور الروح هي من أشرف العلوم , لأن الروح أصل , وتطويرها بتحريرها وإطلاقها عن المقيدات بأنواعها ينعكس على كل المجالات الحياتية والإنسانية والنفسية والمادية , ولكن قليلون هم من يعلمون علوم الروح الصافية , لأنها ليست علوم نظرية يمكن تحصيلها من الكتب , وإنما هي علوم معرفية لا يكسبها إلا من هو بالفعل يطبقها , وكثيرون هم من يهتمون لا بالعلوم الأصلية وإنما بمشاهير العلوم , ففي أيامنا هذه نجد العلوم كما المطربين والممثلين , منهم المشاهير على ضعفهم , ومنهم المجاهيل على قوتهم , وليس في قلة انتشار علم ما ضعف في مكانته , بل ضعف في البشرية التي قصّرت في طلب هذا العلم , فالشهرة شيء والأصالة شيء آخر وليس دائماً المشهور أصلي .
وممن ينالهم شرف هذه العلوم أيضاً أصحاب الشرف العظيم الرابع وهم من أكرمهم الله تعالى فجعل لهم في انتقاء أصناف مائدة العلوم التي يتناولها من هم مسؤولون عنهم , ومن هم رعاياهم , ولهؤلاء إكرام إلهي خاص لأنهم لا يعانون معاناة التأسيس , ولا يتعبون تعب التدريس , ولكن ينالهم حسنات كل من استفاد من هذه العلوم , ولسنا هنا نبخس مسؤولية هؤلاء الأشخاص , بل على العكس , فإن قراراً منهم يمكن أن ينفع الملايين , ويُكتب لهم ذلك في صفحات التاريخ , وتزداد بذلك صحائف حسناتهم , حتى بعد وفاتهم لانتفاع الأمة بالعلوم التي سمحوا بنشرها , وقرار منهم في لحظة غفلة يمكن أن يودي بهم إلى عكس ذلك ويحملهم مسؤولية ضلال رعيتهم , وتقصيرهم في إعطاء الرعية حقهم , ولا يخفى عليك أيها القارئ أن هكذا قرار بحد ذاته يحتاج إلى علم , وإلى روح , ويحتاج لأن يكون هذا الشخص سابق زمانه , لأنه ليس من السهل على من اعتاد مشاعل النار المشتعلة بالشحم الحيواني , ومصابيح الكاز المستوردة , أن يستوعب عمل وأهمية مصباح يضيء بلا كهرباء ومَحَلّيُ الصنع إلا إذا كان شخص من المستقبل يعيش مع من يعيشون في الماضي , لا شخص يعيش في الماضي مع من يعيشون في المستقبل , فهذا الشخص وإن لم يستطع أن يفهم كيف يمكن لهذا المصباح العجيب أن يعمل , ولكنه بمكانته وقدرته وذكائه وحنكته والمسؤولية التي أوليت له يستطيع أن يفهم ذلك إذا ما سعى للشرح والتفصيل ممن اخترع هذا المصباح بالأصل , فإنه لمن المخجل تاريخياً ومما لا يُقبل أن شخص يريد أن يكون من أصحاب هذا الشرف العظيم الرابع أن يستورد أبناؤنا هذا المصباح من حضارة أخرى لم تبذل فيه إلا القرار الحكيم الذي كان ينبغي أن يتخذه هو في تبني العلم , وكيف سينظر أبناؤنا إلى المسؤول عن ذلك عندما يعلمون أنه علمٌ نشأ في الأرض التي نشؤوا هم فيها , وتغذى من الماء الذي تغذوا هم منه , والآن صار أجنبياً , إنها لمسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق أصحاب هذا الشرف الرابع , فهناك دائماً مؤسس , وهناك دائماً مدرس , وهناك دائماً طالب علم , ولكن هناك مسؤول واحد في مكان واحد يكون صاحب القرار الحكيم الذي ينفع به أبناءه ورعيته , وأتمنى أن يكونوا هؤلاء من أبناء أمتي الكريمة , الأمة التي كانت ولازالت تُصّدر العلوم , والتي لازالت علوم الماضي فيها تنير علوم الحاضر والتي علوم الحاضر فيها ستنير علوم المستقبل .