بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلي على سيدنا محمد إمام الأولياء وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
صحبة الصالحين الجزء الثالث والعشرون
إن لصحبة الصالحين أثر كبير في صلاح النفوس , والإطلاع على سيَرهم وحياتهم وحكمهم لَهُوَ موعظة وشحذ للهمم حتى نصل إلى المولى عز وجل بقلب سليم , ونكمل اليوم مع الشيخ الجليل ذو النون المصري وبعض من أصحابه .
ذو النون المصري 175-245 للهجرة
ذو النون بن إبراهيم المصري الأخميني ، أبو الفيض أحد رجال الحقيقة، قيل اسمه ثوبان، وقيل الفيض، وقيل ذو النون لقبه، واشتهر بذلك، وقد ذكره في حرف الذال ابن عساكر وغيره.
وكان أحد العلماء الورعين في وقته، نحيفاً، تعلوه حمرة، ليس بأبيض اللحية، وكان أبوه نوبياً، فيما قيل.
سئل عن سبب توبته، فقال : ” خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق، في بعض الصحاري, ففتحت عيني، فإذا أنا بقنبرة عمياء، سقطت من وكرها على الارض، فانشقت الارض، فخرجت منها سكرجتان واحدة ذهب والأخرى فضة، في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا، فقلت حسبي، قد تبت . ولزمت الباب إلى أن قُبلت ” .
مات يوم الاثنين، سنة خمس، وقيل ست وأربعين ومائتين، ودفن بالقرافة الصغرى، وعلى قبره مشهد مبني، عليه جلالة، ومعه قبور جماعة من الأولياء.
ومن كلامه ” : سقمُ الجسد في الأوجاع، وسقمُ القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة في الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع ذنبه ” .
وقال : ” من لم يعرف حق النعم سُلِبها من حيث لا يعلم ” .
وقال : ” الأنس بالله من صفاء القلب مع الله ” .
وقال : ” الصدق سيف الله في أرضه، ما وضع على شيء إلا قطعه ” .
وسُئل عن التوبة ، فقال : ” توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة ” .
وقال : ” ثلاثة موجودة، وثلاثة مفقودة : العلم موجود، والعمل به مفقود؛ والعمل موجود، والإخلاص فيه مفقود؛ والحب موجود، والصدق فيه مفقود ” .
وقال : ” لم أرَ شيئاً أبعث لطلب الإخلاص من الوحدة لأنه إذا خلا لم يرَ غير الله، فإذا لم يرَ غيره لم يحركه إلا حكم الله، ومن أحبَ الخلوة فقد تعلق بعمود الإخلاص، واستمسك بركن كبير من أركان الصدق ” .
وقال : ” ما أكلت طعام امرئ بخيل ولا منّان إلا وجدت ثقله على فؤادي أربعين صباحاً ” .
وحكى إن رجلاً صالحاً صحبه مدة، وخدمه سنين، ثم قال له أنت تعلم صلاحي وأمانتي، أحبك أن تعلمني اسم الله الاعظم، فإنه بلغني أنك تعرفه، فسكت عنه مدة، وأوهمه أنه سيعلمه، ثم أخذ يوماً طبقاً، وجعل فيه فأرة حية ، وغطاه وشده في مئزر، وقال له أتعرف صاحبنا الذي بالجيزة، بالمكان الفلاني قال نعم قال فأوصل إليه هذه الأمانة , فأخذه ومضى، فوجده خفيفاً، فرفع الغطاء، فهربت الفأرة، فأزداد غيظاً، فقال يسخر بي، يحملني فأرة هدية ! ، قال فلما رآني علم ما في نفسي، فقال يا مسكين ائتمنتك على فأرة فلم تؤديها، فكيف أتمنك على اسم الله الأعظم اذهب فلست تصلح له ” .
وسئل لِمَ صير الموقف بالحل دون الحرم ؟ ،فقال لأن الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والمشعر الحرام بابه، فلما أن وصل الوافدون أوقفهم بالحجاب الثاني، وهو مزدلفة، فلما نظر إلى تضرعهم أمرهم بتقريب قربانهم؛ فلما قربوه وقضوا تفثهم، وتطهروا من ذنوبهم، التي كانت لهم حجاباً من دونه، أمرهم بالزيارة على الطهارة, وإنما كره صيام التشريق، لأن القوم زوار الله، وهم في ضيافته، ولا ينبغي لضيف أن يصوم عند من أضافه إلا بإذنه”.
وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي، سمعت ذا النون – وفي يده الغل ، وفي رجليه القيد – وهو يساق إلى “المطبق”، والناس يبكون حوله، وهو يقول : ” هذا من مواهب الله ومن عطاياه، وكل عذب حسن طيب ” . ثم أنشأ يقول :
لك من قلبي المكان المصون كل لوم علي فيك يهـــون
لك عزم بأن أكون قتيــــــــلا فالصبر عنك ما لا يكون
وقيل له عند الترع أوصنا ، فقال : ” لا تشغلوني فأني متعجب من سر لطفه ” .
ومن أصحابه أحمد الخراز، وأحمد الجلاء، و منهم أخوه زرقان بن محمد، ولعلها أخوة مؤاخاة لا نسب، كما قال السلمي, من أقرانه، وجلة رفقائه، صاحب سياحة, كان بجبل لبنان، من ساحل دمشق, حكى عنه بن يوسف بن الحسين الرازي
ومن أقرانه سعيد بن يزيد النباجي، أبو عبد الله أحد الصلحاء، حكى عن الفضيل بن عياض، وعنه ابن أبي الحواري تلميذه, وله كلام حسن في المعرفة وغيرها، ومن كلامه :” أصل العبادة في ثلاثة أشياء: لا يرد من أحكامه شيئاً، ولا يدخر عنه شيئاً ولا يمسك ولايسأل غيره حاجة”.
وقال : ” ما التنعم إلا في الإخلاص، ولا قرة العين إلا في التقوى، ولا الراحة إلا في التسليم ” .
وقال : ” من خطرت الدنيا بباله لغير القيام بأمر الله حجب عن الله ” .
وقال : ” إن أحببتم أن تكونوا أبدالا فأحبوا ما شاء الله، ومن أحب ما شاء الله لم تُنزِل به مقادير الله وأحكُامه شيئاً إلا أحبه ” .
ومن أصحابه عمر بن سنان المنبجي أبو بكر، من قدماء مشايخ الشام، وصحب إبراهيم الخواص أيضا,
ومن كلامه : ” من لم يتأدب بأستاذ فهو بطال ” .
وقال : ” لما أقبل ذو النون منبج استقبله الناس فخرجت فيهم وأنا صبي، فوقفت على القنطرة، فلما رأيته أقبل، وحوله قوم من الصوفية، وعليهم المرقعات، ازدريته, فنظر إلي شزرا، وقال : ” يا غلام! إن القلوب إذا بعدت عن الله مقتت القائمين بأمر الله”. فأرعدت مكاني، فنظر إلي ورحمني، وقال : ” لن تراع يا غلام ! رزقك الله علم الرواية، وألهمك علم الدراية والرعاية ” .
ومن أصحابه أيضا وليد السقاء، أبو إسحاق.
دخل عليه أبو عبد الله الرازي، وقال : ” كان في نفسي أن أسأله عن الفقر، فقال لا يستحق أحد اسم الفقر حتى يستيقن أنه لا يرد القيامة أحد أفقر إلى الله منه ” .